
رحلة القلب والروح
نشأت فكرة هذه الرحلة في مخيلتي منذ عدة سنوات، ولكن حالت ظروفي دون القيام بها، حيث كانت تتطلب سناً لم أبلغهُ بعد، ليمكنني زيارة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة بمفردي، انتظرتُ حتى جاءت اللحظة التي كنتُ أنتظرها بفارغ الصبر بعد أن دعوتُ الله بيقين الإجابة في ليلة الإسراء والمعراج.
فمنَّ عليّ الله جل شأنهُ بأن يسرَ لي السفر وأنا متعجبة غير مصدقة، فهذا الذي تمنيته منذ سنوات.
وبالمصادفة علمتُ باسم صاحب شركة سياحة سيقوم برحلة عُمرة بعد أسبوع واحد، وينهي الإجراءات على عجل، فتواصلتُ معه وسلمته جواز السفر و الأوارق المطلوبة فاستخرج لي الترخيص بالسفر للعمرة، ودفعت له مبلغا من المال مقابل ذلك، وأنا غير مصدقة أنني سأسافر سريعا وحدي، مع فرج سياحي لا أعرف منه أي فرد.
أعددتُ حقيبتي على عجل، ووضعت فيها ملابس تناسب المناسك، وقلبي يكاد أن يطير ويسبقني إلى مكان تهفو إليه روحي منذ زمنٍ طويل.
وفي يوم الرحلة تقابلتُ مع الفوج، وتعرفت على عدد من السيدات المسافرات بمفردهن مثلي، واتفقنا على التنقل معاً بين الحرم و الفندق، وكلي أمل في أن أحقق ما أصبو إليه.
طارت بنا الطائرة من مطار برج العرب بالإسكندرية إلى مطار جدة، ووصلنا في خلال ساعتين ونصف الساعة، بعد أن استمتعنا بمشهد السحب في السماء أسفل الطائرة، التي كانت تتمايل بنا وتُهدهدنا كالأطفال في مهدهم الأول.
نوينا الإحرام في الطائرة، وبعد وصولنا إلى جدة أنهينا الإجراءات في أقل من ساعة واستلمنا حقائبنا من فوق السير الناقل للأمتعة.
ثم استقل بنا مرشد الفوج سيارتين إلى محل الفندق في مكة، وصلتُ الفندق معهم بعد صلاة العصر، واتفقتُ معهم على استلام الحجرة ووضع متاعنا بها أولا قبل الخروج إلى الحرم لأداء مناسك العمرة، انتظرنا قليلا حتى انتهى العمال الهنود من تنظيف الحجرات.
فوضعنا فيها متاعنا وبدلنا ثيابنا وتناولنا شيئا يسيرا من الطعام، وكاد الشوق يفتك بفؤادي في انتظار الذهاب إلى الكعبة لأداء مناسك العُمرة.
سرنا معاً مجموعات وخرجنا نحو بيت الله الحرام، وفي الطريق اشترينا خطوطا للهواتف لمحادثة ذوينا في مصر وطمأنتهم على وصولنا بالسلامة.
كانت كل خطوة تقربني من الحرم تحمل العديد من دقات قلبي المتسارعة، والمزيد من اللهفة المفعمة بالأمل في الراحة النفسية التي أنشدها من هذه الرحلة المباركة.
مرت الدقائق سريعاً ووصلنا إلى موضع التوسعة حول الحرم المكي حول باب تسعة وسبعون وهو ما يعرف بباب الملك فهد.
فدلفتُ معهم من الباب، وقلبي يطير ويكادُ أن ينخلع، وخلال دقائق هبطنا على الدرج الكهربائي، فأصبحنا في صحن الكعبة، ويالها من لحظة!
لو ظللتُ طيلة عمري أصف شعوري فيها لما نجحتُ في ذلك، فعندما وقع بصري على الكعبة المشرفة لأول مرة فاضت عيناي بالدموع، وبكيتُ وضحكت في آنٍ واحد ومالبثتُ أن سجدتُ سريعا في موضعي، أقبل الأرض تحت قدمي، وأشكر الله مرددة الحمد لله. الحمد لله، تحققت أمنيتي، وكأن رحاب الكعبة والمسجد الحرام يحتضن أشواقي ويربت عليّ في حنانٍ بالغ.
لم أتمالك أعصابي، تحركتُ سريعاً، وأديتُ صلاة ركعتين في موضعي أمام الكعبة، ثم انخرطتُ مع الموعودين بهذه النعمة العظيمة، فطفتُ حول الكعبة سبعة أشواط، ووجدتني خلالها أقترب أكثر فأكثر حتى لامستها وأنا أبكي وأدعو لأبنائي ولأسرتي ولكل من أعرفهم ولأمة المسلمين جمعاء.
أخذتني الحماسة واختفت الأوجاع التي كثيرا ما كنتُ أشكو منها كلما سرتُ لمسافة طويلة، لم أشعر بالألم بل شعرتُ بأن روحي خفيفة، وكأنني سأطير من السعادة
وبالهِمة التي جعلتني أسير مع من صاحبوني لإكمال باقي المناسك.
فاتجهنا إلى الصفا لبدء الأشواط السبعة التي سارتها سيدتنا هاجر زوجة نبينا إبراهيم عليه السلام وكانت الأرضية مختلفة بعض الشيء في بداية الطريق مقسمة إلى مربعات محفورة على الرخام آلمت قدمي قليلا ولكنها كانت كعلامة لبداية الشوط، وخلال المسير كانت هناك مسافة للرجال يهرولون فيها تم وضع إشارات ضوئية خضراء في سقفها، ولكن النساء سارت فيها بنفس الخطوات دون هرولة، الحقيقة المسافة طويلة جدا ولم أتخيل أن امرأة يمكنها أن تهرول فيها باحثة عن الماء لابنها كما فعلت سيدتنا هاجر، ولكن الله منحنا القوة وأنجزنا مهمتنا بنجاح وانتهينا من كافة المناسك خلال ساعتين ثم صلينا ركعتين أمام الكعبة بعد انتهاء الشوط السابع، وشربنا للمرة الأولى من ماء زمزم وما أحلاه من ماء، لا يشبه ما شربناه من قبل في حياتنا كلها.
فغادرنا إلى الفندق في احدى السيارات الأجرة( التاكسي) وما إن وصلنا الفندق حتى قصصنا شيئا من شعرنا فتحللنا من الإحرام، وانقضت بذلك أولى ليالينا في العمرة بمكة المكرمة، وهي أحلى وأعظم ليالي العمر التي مرت بي.
قبل الفجر طرق الباب مشرف الفوج، ونبهنا إلى الاستعداد لصلاة الفجر في الحرم، بالفعل توضأنا وارتدينا ملابسنا الأثقل نوعا ما، التي تناسب ليالي أواخر شهر ديسمبر الباردة، وخرجنا كسيدات في مجموعة، والرجال في مجموعة أخرى، واتجهنا سيراً على الأقدام إلى الحرم المكي، وكانت مكة كلها مستيقظة في ذلك الحين، والازدحام شديد حيث أن هذه الرحلة كانت من أوائل الرحلات التي تم السماح بها بعد غلق الحرم المكي عامان بسبب جائحة كورونا التي ضربت معظم دول العالم.
استمعنا إلى صوت الإمام ماهر المعيقلي، وصلينا خلفه تحدونا السكينة والخشوع وترفرف علينا أطياف الهدى والتقوى، فشعرتُ حقا أنني في جنة الأرض التي لا أريد أن أتركها.
مرت بنا الأيام تترى سريعا، ونحن نصلي في الحرم المكي المبارك أمام الكعبة وندعو من قلوبنا بالرحمة والعودة سالمين.
بقلم د.زينب كمال حلبي